مراكش الحمراء، مدينة بدأت تفقد بهجتها

من إعداد: د. عبد العزيز رشدي

(باحث بالمركز)

مراكش الحمراء أو مدينة النخيل، مدينة يعشقها الكثير، مدينة تحفل بالتاريخ، تتشكل فيها كل الأزمنة ويتشكل فيها الماضي والحاضر، تحضر فيها كل صور العظمة والمجد ..تقف شاهدة بأسوارها وبناياتها التاريخية (مسجد الكتبية ، قصر البديع، قصر الباهية، المنارة، الأسوار التاريخية…) ومدينتها العتيقة ونخيلها ولا ننسى القلب النابض “ساحة جامع الفنا” التي صنفت كتراث  عالمي إنساني مشترك …ساحة تنطق بالأعاجيب، خليط بين التراث والفلكلور والأهازيج   والحلقة، والتي تجمع الفرجة والنكتة والحكاية …إضافة إلى معروضات للبيع من كل الأصناف. فالساحة لازالت تواجه أعاصير الزمن وتقلباته بما تعرضه للزائرين من مدن شتى وقرى مغربية وأجانب من كل الجنسيات، من نكت وأهازيج وسخرية وأغان وكلام موزون.. . كأنها تنطق وتقول أنها لازالت  حاضرة وجاذبيتها مستمرة، بالرغم مما اعتراها من تغير في هذا الزمن.

 والحقيقة  التي يمكن أن يلامسها  الزائر أن الساحة أصبحت تئن وتستنجد لما أصابها من ملل وتراجع،  وذلك لغياب أصحاب الفرجة الحقيقية، الذين كانوا يرسمون البهجة في وجه المتفرجين ويذهبون عنهم السأم والملل … كانت الساحة حتى زمن قريب فضاء للأنس والمرح،  لكنها اليوم وللأسف أصبحت تتألم بفعل المضايقات التي يتعرض لها العديد من السياح من طرف بعض العاطلين والمرشدين السريين والباعة المتجولين، وهي تصرفات  بلا شك تضر بالمدينة وبسمعتها  وثقافتها العريقة.

أذكر يوما قولا للأديب الراحل نجيب محفوظ حينما قال ” إذا لم تكن لدينا ثقافة  سيأتي السياح ليتفرجوا علينا بدلا من التفرج على تراثنا وحضارتنا ” قولة بليغة تخفي من وراءها مسألة مهمة هي أن  السياحة ليست فقط إقامة مبان فخمة ..أو فنادق راقية   أو مسابح   أو شوارع مزينة أو حتى مبان تاريخية ..وهي أشياء بالغة الأهمية ولا ننكر قيمتها ودورها في الرقي بالسياحة ، لكن ننسى حقيقة كبرى هي أن  السياحة هي  سلوك و تربية…تربية  الإنسان الواعي والمتحضر، الذي يحترم الآخرين كيفما كانت جنسياتهم…المواطنة  إذن هي العملة الأساسية لنجاح كل قطاع  ومن ذلك قطاع السياحة …

فإنجاح قطاع السياحة يبتدئ من ترسيخ ثقافة سياحية تعمل على حسن استقبال السياح ، بدأ من المواطن البسيط إلى العاملين بالتجارة والإرشاد والأمن ….إلخ . فالقطاع السياحي يتطور أساسا  من خلال الاهتمام بالمحيط السياحي والقطع مع بعض السلوكيات غير اللائقة من طرف  بعض الأشخاص من التجار وأصحاب البازارات الذين لا ضمائر لهم يبيعون مزهريات  أو إحدى الأواني الخزفية أو منسوجات  كالزرابي أو حقائب  جلدية بأضعاف مضاعفة عن ثمنها  الحقيقي  بحجة أن  إحدى هذه   المنتوجات  ثمينة وقديمة ، والذين يسيئون  كثيرا  لسمعة المدينة بل لسمعة  المغرب…

   فالمندوبية الجهوية للسياحة بمراكش تقر  بكون المدينة لازالت تعرف عدة ظواهر سلبية تهدد النشاط السياحي  من قبيل الخلل في الاستقبال وممارسات  غير قانونية يتعرض لها السياح ، زيادة على الأثمنة المرتفعة  والغش الذي يمارسه بعض المهنيين ، وتطالب بالحد من هذه الظواهر ، ومعالجة مشاكل أخرى من قبيل النقل والسير وتطوير الخدمات الثقافية وتحسين شروط الاستقبال والرفع من المستوى العمراني للمدينة وذلك من خلال تحسين الجودة الحضرية وتأهيل المجال الحضري للمدينة[i]

عندما يتلمس المرء الواقع الاجتماعي للمدينة، يشعر بنوع من الاستغراب، فعلا هي مدينة سياحية بامتياز، والمورد الأساسي فيها يعود  إلى السياحة .. والعديد من ساكنتها تعيش على هذا القطاع ، لكن بالرغم  من ذلك فهذه المدينة  أصبحت مجالا للتناقضات والتمايزات والفوراق الطبقية… فالسياحة التي ينتظر أن تكون محرك محوري التنمية، قد تعطي نتائج عكسية وتصبح فئة اجتماعية معينة هي المستفيدة من ثمارها.

     فمراكش المدينة الشهيرة، والتي كان المغرب يعرف باسمها،  تعيش تناقضات مجالية صارخة  مع محيطها ، فهي  تحظى بالفنادق المصنفة والإقامات  الرفيعة وملاعب الكولف والبحيرات الاصطناعية ، في حين أن الدواوير والقرى المنتشرة حولها تعيش في ظروف تنعدم فيها أبسط ظروف العيش الكريم وتغيب فيها المرافق والتجهيزات العمومية من ماء صالح للشرب وإنارة عمومية وصرف صحي ونقل حضري ومؤسسات تعليمية ومستشفيات.

فالمدينة اليوم مطوقة بالعديد من الدواوير الهامشية التي تتوسع بشكل متزايد بدون حسيب ولا رقيب وهو ما يؤدي إلى ترييف جانب  من المجال الحضري  المراكشي  الذي  تظهر آثاره داخل المدينة من خلال كثرة العربات التي تجرها الدواب وتفشي مظاهر البؤس والحاجة، وهي وضعية كفيلة بان تصنع مشهدا يوميا بئيسا وخللا اجتماعيا واقتصاديا كبيرا.

تضم مراكش حزاما من الدواوير ذات البناء العشوائي بكل تجلياته ، في هذا الشأن تشير بعض التقارير[ii] التي تتحدث عن  واقع التعمير بجهة مراكش عن  تمركز التجمعات السكانية في دواوير متناثرة هنا وهناك ، التي لازالت تعاني نقصا في شبكة التطهير خصوصا بالوسط القروي نتيجة قلة أو انعدام موارد تسمح بعمليات تجهيز المراكز القروية الجديدة التي تفتقر إلى أبسط التجهيزات. كما يخل التمدن السريع و الغير المنتظم بالتوازن المجالي حيث تتفكك البنية الحضرية و معها الأنسجة القديمة كما تظهر بنايات جديدة و عشوائية بالأحياء الهامشية،  الشيء الذي يترتب عنه لا محالة  نتائج جد سلبية على نظام التوازن البيئي والمجالي.

        وينتج عن التوسع العمراني العشوائي الذي تعرفه ولاية مراكش تدهور واجهة المدينة والمس بالسمعة المتميزة التي كانت تعرفها وما ينتج عن ذلك من  إتلاف المجالات الطبيعية المحيطة بها، خاصة الأراضي الفلاحية.  ويعتبر النمو الديمغرافي المتزايد  أحد العوامل الأساسية في هذا التوسع و كذلك ظهور مراكز حضرية جديدة كانت في الأصل قروية. والنتيجة أن مراكش أصبحت  ترمي بلا رحمة بفئة كبيرة من البسطاء خارج أسوارها، كأن هذا هو المصير الذي كان ينتظرهم من جراء تطور المدينة والتعمير والسياحة. مند سنوات عدة ومراكش تفتح ذراعيها للأجنبي الرأسمالي الذي يشتري رياضاتها ويستمتع بخيراتها ورفاهيتها، ويتنعم بفنادقها أما البئيس فهو على الهامش  يمني نفسه بما تجود به عليه من فضالاتها.

    لا شك أن التغيير الذي مس البنيات السكانية والاجتماعية والاقتصادية،  وهو تغيير في العديد من أوجهه يبقى مؤثرا على هوية المدينة وحضارتها وتقاليدها، مما يجعلها تفقد الكثير من ثقافتها وأصالتها. مراكش   كانت  دوما كما يسمونها أهلها مدينة البهجة والأنس،  لكن اليوم بدأت تدريجيا تفقد  الكثير من البهجة ، وأصبحت تطلب العون ممن  يعيد  لها حيويتها وأنسها وجاذبيتها  كما كانت في الماضي القريب.

[i]  المندوبية الجهوية للسياحة ، القطاع السياحي بجهة مراكش تانسيفت ، مؤشرات

وإحصائيات 2011      

[ii]  تقرير حول مشاكل السكن بجهة مراكش تانسيفت الحوز منشور على الموقع الالكتروني :http://boudina.voila.net/chan002.htm

اترك تعليقاً